فصل: تفسير الآيات (75- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة الواقعة:

.تفسير الآيات (75- 80):

قال الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)}.
قبل أن نتكلّم عن تفسير الآيات نقول: قد ورد القسم على هذا النحو في القرآن الكريم كثيرا، منه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17)} [الانشقاق: 16، 17] و{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 15، 16] و{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1)} [القيامة: 1] و{فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38)} [الحاقة: 38] {وفَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ} [المعارج: 40] و{لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: 1].
وقد جاء على غير هذه الصورة، أي من غير (لا) النافية، ومن غير الفعل (أقسم). وقد جاء القسم على أنواع: إمّا قسم الله بنفسه موصوفا بالربوبية {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] والقسم هنا على مضمون جملة خبرية {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92، 93].
وإمّا قسم بالذّات معنونة بلفظ الجلالة: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وتارة يكون القسم بأشياء من خلقه: (كالصافّات) (والطور) (والذاريات) (والنجم) و(مواقع النجوم) و(الشمس وضحاها) و(الفجر) و(البلد) و(القيامة) و(التين والزيتون).
وتارة يكون القسم بالقرآن موسوما باسمه: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1، 2] {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1] {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1] أو موسوما باسم الكتاب: {حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)} [الزخرف: 1، 2 والدخان: 1، 2].
ومهما يكن المقسم به فالمقسم عليه لا يعدو أن يكون من أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها، فهو تارة يكون قسما على التوحيد، كقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)} [الصافات: 1- 4].
وتارة يكون قسما على أنّ القرآن حقّ، كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} وقوله: {حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ} [الدخان: 1- 3] وقوله: {حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 1- 3] على بعض الوجوه في جواب القسم.
وتارة يكون المقسم عليه أنّ محمدا رسول {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1- 3].
وتارة يكون المقسم عليه نفيا لصفة ذميمة عن الرسول الأكرم {ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 1، 2] و{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2)} [النجم: 1، 2] ومن هذا قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41)} [الحاقة: 38- 41].
وتارة يكون المقسم عليه الجزاء والوعد والوعيد مثل قوله تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5)} [الذاريات: 1- 5] ومنه قوله: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23] ومنه: إلى قوله: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)} [المرسلات: 1- 7] ومنه: {وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2)} إلى قوله: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)} [الطور: 1- 8].
هذا وقد أمر الله نبيّه أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاثة مواضع، قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وقد جاء المقسم عليه أحوالا من أحوال الإنسان التي هو عليها: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل: 1- 4].
ووقع القسم على صفة الإنسان: {وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 1- 6].
وجاء القسم على عاقبة الإنسان: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [التين: 1- 6] {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1- 3].
قد أردنا بهذا الذي ذكرنا أن نريك فنون القسم في القرآن، سواء في المقسم به والمقسم عليه، ولولا الإطالة في غير الموضوع المقرّر لذكرنا لك شيئا من فنون القرآن الكريم في جواب القسم، وإنّه تارة يكون إنشاء، وتارة يكون خبرا، وتارة يكون مذكورا، وتارة يكون محذوفا، لكنّ ذلك يحتاج إلى الشرح والإيضاح، فيطول، ونريد أن نرجع إلى القول في الذي معنا.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}.
قد أطلعناك على أمثلة كثيرة من هذا النوع من القسم في القرآن الكريم، ويمتاز ما معنا بأنه قيل فيه صراحة {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} فكان هذا دليلا على أنّ هنا قسما وحلفا مثبتا، وأنّ الكلام إثبات قسم لا نفي قسم.
ولقد كانت الصورة الظاهرة صورة نفي القسم مجالا فسيحا للعلماء، أجهدوا فيه قرائحهم، وأبدوا آراءهم في بيان المراد، والجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} فذهب بعضهم إلى أنّ (لا) زائدة، مثلها في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29] معناه ليعلم، والمعنى هنا: فأقسم بمواقع النجوم، والقول بالزيادة يكاد لا يرتضيه أحد.
وذهب بعضهم إلى أن (لا) هي لام القسم بعينها، أشبعت فتحتها، فتولدت منها الألف، نظير الألف في قول الشاعر:
أعوذ بالله من العقراب

حيث أشبعت فتحة الراء، فتولّدت منه الألف، وحينئذ تتحد القراءتان، قراءة مدّ اللام وعدم مدها في المعنى، ويكون المد مدّ إشباع، ويكفي في ضعف هذا القول اعتراف قائليه بقلّة هذا التوليد في لغة العرب. على أنّ هذا يوقعنا في شيء آخر، لا يقرّه النحويون، وهو خلوّ فعل القسم إذا كان مستقبلا من النون، فإنّ النحاة يقولون: إذا وقع الفعل مستقبلا مقرونا باللام في حيّز القسم وجب اتصال الفعل بنون التوكيد، وحذفها ضعيف جدا، حتى لقد اضطروا إلى تخريج القراءة الأخرى للقسم على أنّ اللام للابتداء، وليست للقسم، وقالوا: إنّها داخلة على مبتدأ محذوف، والمعنى: فلأنا أقسم، وإن كان هذا التخريج لا يخلو من شيء.
وقيل: بل النفي على حاله، و(لا) نفي لمحذوف، هو ما كان يقوله الكفار في ذم القرآن، من أنّه سحر وشعر وكهانة. ثم استؤنف الكلام بعد ذلك، ويكون حاصل المعنى: فلا صحة لما يقولون، أقسم بمواقع النجوم إلخ وفوق أن الحذف لا دليل عليه، فهو لا يتفق مع ما يقول النحاة من أنّ اسم لا وخبرها لا يصحّ حذفهما، إلا إذا كانا في جواب سؤال، كما تقول: هل من رجل في الدار؟ فنقول: لا.
على أنّ علماء المعاني يقولون في مثل هذا الموضع: إنّ العطف بالواو متعيّن، كما يقال: هل شفي فلان من مرضه فيقال: لا، وأطال الله بقاءك.
ويرى الفخر الرازي أن كلمة (لا) هي نافية على معناها، غير أن في الكلام مجازا تركيبيا، وتقديره أن نقول: (لا) في النفي هنا مثلها في قول القائل: لا تسألني عما جرى عليّ، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله، فإن غرضه من السؤال لا يحصل، ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلّا بيان عظمة الواقعة، ويصير كأنه قال: جرى عليّ أمر عظيم، ويدل عليه أن السامع يقول له: ماذا جرى عليك، ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال: ماذا جرى عليك، فيصحّ منه أن يقول: أخطأت حيث منعتك عن السؤال، ثم سألتني وكيف لا، وكثيرا ما يقول ذلك القائل الذي قال: لا تسألني عند سكوت صاحبه عن السؤال، أو لا تسألني، وتقول: ماذا جرى عليك؟ ولا يكون للسامع أن يقول: إنك منعتني عن السؤال: كل ذلك تقرّر في أفهامهم: أنّ المراد تعظيم الواقعة لا النهي.
إذا علم هذا فنقول في القسم: مثل هذا موجود من أحد وجهين:
إما أن لكون الواقعة في غاية الظهور، فيقول: لا أقسم بأنه على هذا الأمر، لأنه أظهر من أن يشهر، وأكثر من أن ينكر، فيقول: لا أقسم، ولا يريد به القسم ونفيه، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول: لا أقسم يمينا بل ألف يمين، ولا أقسم برأس الأمير برأس السلطان، ويقول: لا أقسم بكذا، مريدا لكونه في غاية الجزم.
والثاني: يدل عليه أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن، والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته، وإنما جاءت أمور مخلوقة، والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا: إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء، كما في قوله: {وَالصَّافَّاتِ} المراد منه رب الصافات، فإذا قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)} أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه وأن يتطرّق الشك إليه.
ولعلك بعد كلام الفخر تكون قد فهمت أن نفي القسم استعمل في القسم من طريق أوكد.
وقبل أن نتكلم على معنى القسم من الله بذاته، أو بأشياء من خلقه، نتكلم على تفسير الآية التي معنا، لنفرغ إلى القول في هذه النواحي باستفاضة.
{أُقْسِمُ} أحلف {بِمَواقِعِ النُّجُومِ} المواقع جمع موقع، وموقع الشيء ما يوجد فيه، وما يسقط فيه إن كان من أشياء مرتفعة. وعليه، فمواقع النجوم قيل: المشارق والمغارب جميعا، لأنها موجودة فيها. وقيل: المغارب فقط، لأنّ عندها تسقط النجوم. وقيل: بل مواقعها مواضعها من بروجها في السماء ومنازلها منها. وقيل: بل المراد مواقعها يوم القيامة إذا الكواكب انتثرت، وسنتكلّم بعد على حكمة القسم بمواقع النجوم خاصة.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} عظيم خبر (إن) وقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} اعتراض بين إنّ وخبرها. والضمير في قوله: (إنه) يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام على ما تقدّم توضيحه. و{لَوْ تَعْلَمُونَ} شرط، جوابه: إمّا محذوف بالكلية، لأنه لا يتعلق بذكره غرض، إذ المقصود هو نفي ما دخلت عليه (لو). وكأن المعنى: إنّه لقسم عظيم. لو تعلمون. وذلك أنّ (لو) حرف يدلّ على امتناع شيء لامتناع غيره، وعلى ذلك فهي تدلّ على نفي مدخولها لانتفاء شيء آخر، فإذا قد أفاد دخول (لو) على (تعلمون) انتفاء علمهم، وهذا هو الذي يعنينا، أما الجواب فعلمه بعد ذلك كأنّه لا يعني.
ويقول الفخر الرازي: إنّ فائدة مجيء النفي على هذه الصورة بدل قوله: (وإنه لقسم عظيم) ولا تعلمون أنّ النفي على الصورة التي معنا أوكد، لأنّ إتيانه عليها ذكر للشيء بدليله. أما الصورة الأخرى فليس فيها إلا إثبات عظم القسم مقترنا بنفي علمهم من غير تعرّض للإشعار بسبب نفي العلم عنهم. أما هنا فكأنّه قيل: لو كان عندكم أثارة من علم لثبت عندكم عظم القسم، فإن كان أحد يشكّ في ذلك، فمنشأ الشك ليس لعدم العظم في نفس الأمر، بل لأنّه لا يعلم، وأين هذا من ذاك.
وإما أن يكون جواب (لو) مقدّرا مفهوما من خبر (إن) أي لو كان عندكم علم لعظّمتموه، لكنكم لم تعظّموه فلا علم عندكم، وترى أنّا لم نقدّر لتعلمون مفعولا، بل جعلناه منزّلا منزلة اللازم، ويصحّ أن يقدّر له مفعول يدلّ عليه خبر (إن).
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)}.
الضمير في (إنّه) يرجع إلى معلوم للمخاطبين، وهو الكلام العربي الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وكان الكفار يقولون فيه: إنه شعر، إنه سحر إنّه كهانة وافتراء.
فقال الله في الرد عليهم: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)}، وقال بعضهم: هو الكلام من أول سورة الواقعة إلى هنا مما جاء فيها من التوحيد، والحشر، والدلائل التي سيقت لإثباتها، وذلك أنهم كانوا يقولون: هذا كلام من عند محمد لم ينزل عليه من عند الله، فقال الله في الردّ عليهم: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)}.
والقرآن مصدر أريد منه اسم المفعول، فهو بمعنى المقروء، على حد قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} [الرعد: 31] وهو من باب {هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] وقيل: بل هو اسم لما يقرأ من الكلام المنزّل إلخ كالقربان اسم لما يتقرّب به، والمشركون وإن كانوا لا يجهلون أنّه مقروء إلا أنهم كانوا ينازعون في أنه قرآن كريم، وأيضا كانوا يقولون: هو من عند محمد، وكانوا ينكرون تنزيله وأنّ محمدا يتلو عليهم ما سمع من الوحي.
ومعنى كونه كريما: أنّه طاهر الأصل، ظاهر الفضل، يجد فيه كلّ الناس ما يريدون من خير: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبدا كتاب الله».
وقد وصف الله القرآن بأوصاف كثيرة، وصفه بكونه حكيما، وبكونه عزيزا، وبكونه كريما، وبكونه مجيدا، وهو كريم، من أقبل عليه أخذ منه ما أراد، وهو عزيز من أعرض عنه ذلّ، وهو حكيم بما اشتمل عليه من كنوز الحكمة، وهو مجيد بما اشتمل عليه من شريف المقاصد.
وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)} أفاد شيئين: الأول: أنه مظروف في كتاب والثاني: أنّه مكنون. فأما ظرفيته في الكتاب فلنا أن نقول: إنّه على حد فلان كريم في نفسه، حيث لا يراد إنّ المظروف شيء والمظروف فيه شيء آخر، فإنّ الشيء لا يكون ظرفا لنفسه، فالقرآن- وهو كتاب- كريم، في كتاب أي نفسه، أو كريم ثبت كرمه في كتاب، هو اللوح المحفوظ، أو يقال: إنّ المظروف هو جملة {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} والمظروف فيه هو كتاب، ويكون المعنى: إنّ مضمون هذه الجملة ثابت في كتاب هو اللوح المحفوظ، وقد قيل: الكتاب هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو المصحف، وقيل: بل هو كتاب من الكتب المنزلة: كالتوراة، والإنجيل. وأما كونه مكنونا: فالمكنون هو المستور، فإن كان الكتاب اللوح المحفوظ فمعنى كونه مكنونا أنّه مستور عن الأعين، لا يطّلع عليه إلا نفر مخصوص من الملائكة، ويصحّ أن نقول: إن المكنون أريد منه المحفوظ، ويكون الكن كناية عن الحفظ، لأنّ الشيء إذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى في صونه وحفظه بطرق الحفظ المعتادة، بل يستر عن العيون، وكلّما ازدادت عزته ازداد ستره، زيادة في الصون. فقد استعمل الكن والستر وأريد منه المبالغة في الحفظ والصيانة، وقيل: إنّ معنى كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التبديل والتغيير، فهو على حد قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وأما قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} فإما أن نجعله من صفة الكتاب بمعنى اللوح المحفوظ، وإما أن يكون صفة أخرى للقرآن الكريم.
وعلى الأول: فالمطهرون الملائكة، وطهارتهم نزاهتهم عمّا في طبيعة الإنسان من الشهوة التي هي من مقتضيات المادة، ونفي مسه إلا من هؤلاء يراد منه أنّه لا يطّلع عليه إلا هؤلاء.
وعلى الثاني: فالمراد من المطهرين يحتمل أن يكون الخالين عن الحدثين الأصغر والأكبر، وتكون الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية. ويكون المعنى: لا يمس القرآن إلا من كان على طهارة من الحدثين. والنفي على معنى أنّه لا ينبغي، كمثله في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً} [النور: 3].
ويرى البعض فرارا من كون الجملة خبرية أنّ (لا) ناهية، والضمة التي في (يمسه) ضمة اتباع، لا ضمة إعراب، وقد صرّح الفخر الرازي بضعف هذا القول وإن روي عن ابن عطية. ومع كون الجملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون المراد من المطهرين الملائكة، وهو مروي من عدّة طرق: فعن قتادة أنّه قال في الآية: ذاك عند ربّ العالمين، لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس، وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه: أحسن ما سمعت في الآية: الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا المطهرون. أنّها بمنزلة الآية التي في عبس: {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 11- 16].
وقيل: الآية صفة القرآن حقا، والمراد من المطهرين الخالون من الشرك، والمراد من المس الطلب، مثله في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ} [الجن: 8] وقد عرفت أنّ المسّ بمعنى اللمس، والمعنى: أن القرآن لا يطلبه للعمل به إلا المطهّرون من دنس الشرك.
وأما قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)} فهو وصف آخر للقرآن الكريم، والتنزيل بمعنى منزل أو يقال: وصف به لأنّ القرآن ينزل نجوما على خلاف سائر الكتب.
وقد أنهينا القول في تفسير الآيات، وهنا أشياء لابدّ أن نتعرض لها، لأن بعضها من الأحكام التي أراد الفقهاء أن يأخذوها من الآية. وبعضها الآخر وعدناك به، وهو ما يتعلّق بالقسم. ولنشرع في البعض الأول، وهو ما يتعلّق بالأحكام.
قد رأيت أثناء التفسير أنّ من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في {لا يَمَسُّهُ} إلى القرآن الكريم، وأنّ من الآراء في (المطهرين) رأيا يقول: هم المطهرون من الناس وأنّ طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم الاستدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف، وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم، أو التعبد عند بعضهم، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأنّ الضمير في (يمسه) راجع إليه، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن، فليس هو المصحف، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون، ويراد من المس الإدراك، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به.
وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 13- 16] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون، إذ هو بأيديهم، وأما غيرهم فهم لا يمسونه، لأنه ليس في متناولهم، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة.
منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون، وأما الأخبثون من خلقه، فلا يصلون إليه، ويكون ذلك على حد قوله تعالى: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)} [الشعراء: 210، 211] أفرأيت كيف نفى الله ابتغاء مجيئهم به، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به، وكذلك آية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} [عبس: 1] التي أسلفنا لك ذكرها.
ومن وجوه الترجيح: أنّ السورة مكية، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين: من تقرير التوحيد، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور.
ومن وجوه الترجيح: أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون.
ومن الوجوه أيضا: أنّ الله تعالى قال في وصف الكتاب: {مَكْنُونٍ} وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية، قال: هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد: مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق: مصون في السماء.
على أنّ ذلك يتفق تماما مع قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} ولو نظرت إلى أنّ الآية سيقت للرد على المكذبين لوجدت الذي نقول أبلغ في الرد عليه من وصفه بأنه لا يمسه المحدثون.
على أنّ الآية خبر، وتأويلها على الوجه الذي ذكرنا يبقيها على خبريتها، أمّا تأويلها على الوجه الآخر، فيحتاج إلى إخراجها عن الخبرية إلا الإنشاء، والأصل إبقاء الخبر على خبريته حتى يوجد المقتضى، ونحن نبحث عنه فلا نجده.
على أنّه لو كان المعنى ما ذهبوا إليه لقيل: لا يمسه إلا المتطهرون بدل إلا المطهرون، فالمطهرون من تكون طهارتهم من غيرهم، أما المتطهرون فطهارتهم مسندة إليهم، وحيث أراد الله هذا المعنى قال فيه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وفي الحديث: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».
ومن وجوه الترجيح أنّه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا ذا فائدة كبيرة، إذ ما فائدة أن يقال: إنّ القرآن في مستور، وكل الكتب كذلك.
إنما سيقت الآية الكريمة لمدحه وتشريفه، وبيان الخصال التي اختص بها، والتي تدلّ على أنّه منزل من عند الله، وأنّه محفوظ مصون، لا تصل إليه الشياطين، ولا يمسه إلا السفرة الكرام البررة.
نعم إذا كان المفسرون تبعا للفقهاء يستدلّون بالآية من وجهها الذي استدل بها منه ابن تيمية على الحكم كان حسنا، حيث قال: إنّ الآية تدلّ على الحكم من باب الإشارة والتنبيه، لأنّه ما دامت صحف القرآن في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا الطاهر.
على أنّهم لو ذهبوا إلى السنة لوجدوا بها الذين يطلبون، فقد روى أصحاب السنن من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أنّ في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات: «ألا يمسّ القرآن إلا طاهر».
وقد رجّح العلماء صحة ما رواه ابن حبان في صحيحه ومالك في الموطأ ثم الآثار بعد ذلك كثيرة.
ولعل هذا يغنيك عن الرجوع إلى ترجيح أحد الآراء على غيره في التفسير، أما الحكم فنحن نسلم به من دليله إذا كان في غير الآية، والآثار عليه كثيرة: منها ما ورد في حديث إسلام عمر أنّه قال لأخته: أعطوني الكتاب الذي تقرءون، فقالت: لا يمسه إلا المطهرون، فقام، واغتسل، وأسلم ومسّ المصحف.
وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يأمرون أبناءهم بالوضوء لمس المصحف.
وعن الحسن والنخعي كراهة مس المصحف على غير وضوء. ثم اسمع رأي الجصاص بعد أن نقل الخلاف الذي عرفت آنفا، قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله، والمطهرون الملائكة. وإن حمل على النهي وإن كان في صورة الخبر، كان عموما فينا، وهذا أولى، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كتب لعمرو بن حزم «ولا يمس القرآن إلا طاهر».
فوجب أن يكون نهيه هذا بالآية إذ هي تحتمله.
ولننتقل بعد ذلك للكلام في القسم وفاء بالذي وعدناك، وسيكون كلامنا في الموضوع من ناحيتين:
ناحية القسم من الله.
وناحية بمواقع النجوم خاصّة لأنه معنا، ومن حقك أن تعرف وجه القسم بها، واختصاصها بالموضع الذي وردت فيه. فنقول: قد رأيت أول ما كتبنا أنّا سقنا لك أنواعا من القسم الوارد في القرآن، فعرفت أنّه أقسم بذاته، وأنّه أقسم بأشياء غير الذات، ومنها القرآن الكريم، وأريناك أمثالا كثيرة {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الذاريات: 23] {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1، 2] {وَالصَّافَّاتِ}، {وَالطُّورِ (1)} إلخ، وقد كان العلماء فرقتين في قسمه بغير ذاته، فمنهم من سلك طريق التأويل، وصرف العبارات عن ظاهرها، فقالوا مثلا: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)}: أي وربّ القرآن الحكيم، {وَالضُّحى (1)}: ورب الضحى. وهلم جرا.
وزعموا أن الذي حملهم على هذا التأويل أنهم:
1- قد رأوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الحلف بغير الله، وقال: «من كان حالفا فيحلف بالله أو ليذر»، والنهي يقتضي قبح المنهي عنه، فإذا ورد في الشرع ما ظاهره أنّه حلف بغير الله وجب تأويله، وردّه إلى أن يكون حلفا بالله.
2- أنّ الحلف بالشيء يقتضي أن يكون المقسم به معظما، والتعظيم لا يكون إلا لله، فوجب أن تحمل الأقسام على ذلك.
3- أنه قد ورد مصرّحا به على هذا النحو في قوله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)} [الشمس: 5- 7] حيث جاء الحلف بالذات بعد الحلف بالسماء وبالأرض وبالنفس، فلابدّ أن يكون القسم في الجميع على هذا المعنى.
أما الفرقة الأخرى من العلماء فذهبت إلى أنّ القسم وقع بأعيان الأشياء المقسم بها، وقد قالوا في الاحتجاج على صحة ما ذهبوا إليه:
1- أن القسم هو بهذه الأشياء في الظاهر، والعدول عنه عدول عن الظاهر، ولا يكون إلا لدليل، وما ذكرتم لا يصلح دليلا، لأن ما منع من العباد لا يلزم أن يكون ممنوعا صدوره من الله. إذ المانع في حق العباد أن في القسم بغير الله تعظيما لذلك الغير، والعباد يجب ألا يشركوا مع الله أحدا في التعظيم. وهذا المعنى غير مدرك في جانب الله تعالى، فهو إذ يعظّم، فإنما يعظّم أشياء دانت له بالربوبية، ولا يمكن في العقل أن تتعاظم على من هي في قبضة يده وبسطة سلطانه.
وهو إذا يعرّف الناس بعظمتها، فإنما يرشدهم إلى عظمة خالقها، وأنه إذ يقسم بها فإنما يقسم لأنّ لها شأنا بديعا، ومنفعة عند العبد يدركها، وينتقل من إدراك إتقان صنعها إلى أنه لابد أن تكون صادرة عن المدبر الحكيم، اللطيف الخبير، ثم هي فوق ذلك نعمة من نعمه على عباده، والحلف بها تذكير بالنعمة لتقابل بالشكر.
2- إنه قال تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)} فأقسم بالسماء، ثم عطف عليها ما بناها، وذلك على طريقتكم قسم بالباني، فلو كان القسم على تقدير مضاف لتكرر القسم في الموضع الواحد من غير موجب، إذ يصير المعنى وباني السماء وبانيها، وطاحي الأرض وطاحيها، ومسوّي نفس ومسويها.
ومثل هذا ينزّه عنه القرآن الكريم.
ولو قلنا على طريقتنا إنّ هذا قسم بالسماء وببانيها، أو ببنايتها لم يلزم هذا المحذور، فتعيّن أن يكون القسم قسما بأعيان هذه الأشياء.
3- أنّه لا يبعد أن يقسم بهذه الأشياء تنبيها إلى شرفها، وما حوت من إبداع وإتقان، ليكون ذلك دليلا على عظمة خالقها، وأنّه إله واحد. ويكون ذلك من تضافر الحجج على المدعى الواحد، فهو قسم واستدلال بما في المقسم به من وجوه الدلالة المختلفة، ومن أجل ذلك نقول: لا داعي إلى التأويل، والقسم قسم بأعيان الأشياء وحقيقتها.
وهنا سؤال يتردّد كثيرا، حاصله أن يقال: ما فائدة القسم؟ والمخاطب أحد رجلين: مؤمن بالقرآن، ومكذب به، وما كان المؤمن محتاجا وهو مؤمن إلى قسم، فهو مصدّق من غير يمين. وإن كان من المكذبين الذين لم تغنهم الآيات والنذر، فكيف يصدّق لمجرد القسم بعد أن لم يؤثّر فيه الدليل؟
ويقول العلماء جوابا عن هذا: إنّ هذه الأيمان والأقسام لم تجئ لإثبات الدعاوى، فالدعاوى لها ما يثبتها، وقد اقترنت من دلائل الإثبات بما لا يدحض، إنما جاءت هذه الأقسام لتوكيد ما ثبت من طريق الحجة والبرهان على منهاج العرب وأسلوبهم في توكيد الكلام بالحلف، وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم، والقرآن بلغتهم نزل.
على أننا نحيلك إلى التبصر في كل الأقسام الواردة في القرآن، وبالتأمل فيها تجدها أشياء في مواضعها أقسم بها، وقد حوت من الدلائل ما يجعل القسم ليس قسما في الواقع، وإنما هو تذكير بالدليل الذي يشتمل عليه المقسم به، فهو يذكر في معرض القسم، وهو مخلوق من المخلوقات، فتتوجه النفس إلى سر القسم بهذا المخلوق متسائلة: ما القسم بهذا؟ وما معناه؟ وما مغزاه؟ وما سره؟ ثم تتوجه من ذلك إلى ما في القسم به، باعتبار ما ينبعث منه من بواعث التعظيم، ويكون حاصل المعنى، وحق هذه الأشياء التي ينطق صنعها ووجودها بالعظمة أنّ المقسم عليه لحق.
وما دمنا قد وصلنا إلى هذا فلنتكلم على القسم بمواقع النجوم:
يقول الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} والحديث قبل القسم من أول سورة الواقعة في شأن الواقعة والقيامة الكبرى، وما يكون فيها من أشياء جسام {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)} ثم ذكر الله أقسام الخلق يومئذ، ثم ذكر الأدلة القاطعة على عموم قدرته، وعلى المعاد. فذكر النشأة الأولى دليلا: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)}.
ثم ذكر إخراج النبات من الأرض، وإنزال الماء من السماء. وخلق النار، وسأل الناس {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} ثم ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا، وأمر نبيه أن يسبّح باسم ربه العظيم، ثم أقسم بمواقع النجوم على إثبات القرآن، وكرمه وصونه، وحفظه، وأنه تنزيل من رب العالمين.
وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء في المراد بالمواقع، وما دام الكلام سيكون في سر القسم بها نذكر شيئا مما قيل فيها غير ما سمعت:
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: النجوم آيات القرآن، ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء. وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبير، ومقاتل، وقتادة.
وقيل: النجوم الكواكب، ومواقعها مساقطها عند الغروب، وهو قول أبي عبيدة، وقد تقدم قول كهذا.
وقيل: بل مواقعها انتثارها وانكدارها يوم القيامة، وهو مروي عن الحسن.
ويقول الذي يقول المواقع المساقط عند الغروب: إنّ الله تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها، وجريانها وغروبها، إذ فيها، وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة.
والنجوم متى ذكرت في القرآن الكريم فالمراد منها الكواكب، انظر إلى قوله تعالى: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ} [الأعراف: 54] ومن هنا يمكن أن يقال- بل هو قد قيل: إنّ المناسبة بين المقسم به وهو النجوم ومواقعها، وبين المقسم عليه وهو القرآن، أنّ النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والغواية، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، تلك يؤمن جانبها بالنجوم، وهذه تتوقى بهداية القرآن، فالقسم هنا قد جمع فيه بين هدايتين.
هداية ومنافع، ليدير الناس وجوههم إلى القرآن، ويتبصّروا ما فيه جيدا، فيعلموا أنّه هاديهم الذي لا يضلون معه. ولا تنس كذلك أنّ الله قد جعل النجوم رجوما للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم الشياطين ما تجعل الشياطين يولّون عند سماعه، وما نريد أن نترك هذا الموضع حتى نسمعك رأي الفخر الرازي في هذا:
قال رحمه الله بعد سؤال حاصله: هل في القسم بمواقع النجوم خاصة فائدة؟
قلنا: نعم، فائدة جليلة، وبيانها أنّا قد ذكرنا أنّ القسم بمواقعها، وأن المواقع كما هي مقسم به، هي من الدلائل، وقد بيّناه في الذاريات، وفي الطور، وفي النجم، وفي غيرها، فنقول هي هنا كذلك.
وذلك من حيث أنّ الله تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المني وموته، بيّن بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس، قدرته واختياره، ولما كان هذا دليلا من دلائل الأنفس ذكر أيضا من دلائل الآفاق على قدرته واختياره فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63)}، {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ} إلى غير ذلك، وذكر قدرته على زرعه، وجعله حطاما. وخلقه الماء عذبا فراتا، وجعله أجاجا، إشارة إلى أنّ القادر على الضدين مختار، ولما لم يكن قد ذكر من الدلائل السماوية شيئا، ذكر الدليل السماوي في معرض القسم، وقال: {بِمَواقِعِ النُّجُومِ} فإنها أيضا دليل الاختيار، لأنّ كون كلّ واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل على أنّ الفاعل مختار. فقال: {بِمَواقِعِ النُّجُومِ} ليشير إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] وهذا كقوله: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 20- 22] حيث جمع بين الأنواع الثلاثة كذلك هنا. اهـ.
وهو جميل كما ترى، غير أنّ للباحث أن يقول: ظاهر كلام الفخر أنّ القسم بمواقع النجوم لإثبات القدرة والاختيار لفاعل مختار، لكن الآية تقول: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} وظاهر ذلك أنّ المراد إثباته هو هذا الذي سيق مساق المقسم عليه، فمن أين إثبات القدرة والفاعل المختار في القسم بمواقع النجوم؟
وفي النفس من كلام الفخر روعة، ومن آثارها أن نقول: إنّ هذا استدلال على القدرة والفعل من طريق القسم على القرآن وكرمه وصونه، وأنّه تنزيل من رب العالمين بمواقع النجوم من طريق أبلغ، وكأنّه بعد أن سيقت الدلائل السابقة، والتي كان ختامها القسم بمواقع النجوم، وذكرت في القرآن كأنه قيل: اذكروا هذه الدلائل، وتعرّفوا نتائجها، واذكروا معها مواقع النجوم، وتعرّفوا نتيجة الاستدلال بها، تعلموا أنّ القرآن- الذي جاء بهذا- كريم، وأنّه مصون، وأنّه تنزيل من رب العالمين.
وقبل أن نختم الموضوع نقول: إنّ قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)} توكيد لما قبله، وتقرير له. وكما أنّه لازم لكونه قرآنا كريما بهذا في كتاب مكنون، فهو ملزوم له، فهو دليل وهو مدلول، وكفى هذا خاتمة للموضوع.